السبت، 21 أكتوبر 2017

الخُرافَة ُالثّانِيَة، الحُبُّ في السَّنَواتِ الأُولى مُخْتَلِفٌ وَأَقْوى، أحمد سليمان العمري

الخُرافَة ُالثّانِيَة:الحُبُّ في السَّنَواتِ الأُولى مُخْتَلِفٌ وَأَقْوى:

إِنَّ الرَّأْي الشَّائِع عِنْدَ النّاس أَنّ الحُبّ في السَّنوَاتِ الأُولى وَحَتّى الأَرْبَعين أَوِ الخَمْسين مِنَ العُمْرِ مُخْتَلِفٌ وَلَهُ وَجْهٌ جَميلٌ آخَرْ. رَأْيٌ لا صِحَّة فِيهِ، خاطِئ، لِأَنَّ الحُبّ لَيْسَ مُرْتَبِطاً بِعُمْرٍ مُعَيَّنٍ يَنْتَهي في السِّتينِ أَوْ في السَّبْعينِ وَحَتّى الثَّمانِين، إِنَّها حَالَةٌ روحِيَّةٌ تَخْتَلِفُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَر وَِمِنْ تَجْرُبَةِ لِأُخْرى، فَالتَّجْرُبَةُ الأُولى فِي بدايَةِ العُمْرِ تَكونُ جَميلَةٌ جِداًّ وَنُحِسُّها بِكُلِّ مَشاعِرِنا وَبِقُوَّةٍ وَهذا لِأَنَّنا ما عَرَفْنا هَذا الحِسّ الجَميل مِنْ قَبْل. فَتَكونُ كُلّ الأَشْياء غَيْرُ مُهِمَّةٍ أَمامَ هذا الحِس, فَيَكونُ بِالتَّلْقائِيَّةِ أَجْمَل مِنْهُ عِنْدَ الكِبَرِ, وَهَذا لِأَنّ الحُبَّ عِنْدَ كثير مِنَ الأَزْواجِ يَتَقَلَّصُ وَما عادَ الجِنْس شَهِياًّ جَميلاً وَمُثيراً كَما كان، تَحَوَّلَ إِلى رُوتين مُمِل مُعْتاد، وَعَلى الرُّغْمِ مِنْ هذا يَتَمَسَّكونَ في العِلاقَةِ لِقَناعاتِهِم وَتَنازُلهِمْ بِأَنَّ هذا الشَّيْء تَطَوُّراً تِلْقائِيًّا لِأَيَّ عِلاقَةٍ.
هَل الحُبُّ طاقَةٌ تَتَطَوَّرُ أَمْ تَنْفُذُ مَعَ الوَقْتِ؟ القُدْرَةُ عَلى الحُبِّ هِيَ ذات القُدْرَةِ عَلى الإِحْساسِ في العالمَِ وَبِأَنْفُسِنا وإِدْراكِها، فَالحُبُّ طِْفلٌ صَغيرٌ يَكْبُرُ وَيَتَرَعَرَعُ في ظِلالِ القُلوبِ وَمَنْ يُؤمِنُ بِهِ بَعيداً عَنْ حِساباتِ المَنْطِقِ وَالمَعْقول، ومنْ أَلْحَدَ هذا الحِسّ الجَميل فَإِنَّ أَطْفالَهُ يَتيمَةٌ - فَحُبَّهُ هِيَ أَطْفالَهُ -  تَحْبو نَحْوَ حَتْفِها فَتَموتُ قَبْلَ أَنْ تَتَنَفَّس الصَّعْداء أَو تَتَبَسْمَلِ، وَفازَ مَنْ رَعَى طِفْلَهُ حَتَّى يَكْبُرَ وَيُدْرِكُ مَدى ارْتِباطِ هذِهِ الحالَةِ الرُّوحِيَّةِ الجَميلَةِ بِسَعادَتِهِ، فَلا يَتَنازَلُ عَنْها أَبَداً.
كُلُّ الذِي ذُكِرَ آنِفاً يَحْتاجُ إِلى قُوَّةِ ووَعْيّ وَإِدْراكٍ وَإِرادَةٍ، فَأَحْياناً كَثِيرَة لا نَعِي سَيْطَرَة العَقْلِ الباطِنِ عَلَيْنا، وخاصَّةً فِي المُدُنِ الكَبيرَةِ حَيْثُ المالُ والاقْتِصاد يَلْعَبانِ دَوْراً فَعّالاً وَمُؤَثِّراً فِي الحَياةِ وبِالتّالِي عَلى الحِسّ، فَقَدْ يَتَغَرَّبُ عَنَّا لِأَنَّ الحِسّ في مُجْتَمَعٍ مادِّي كَهَذا لا يًؤْخَذُ بِعَيْنِ الإِعْتِبار، فَالإِنْجازُ والمَوْضوعِيَّة وَالفِهْم الحاذِق وَالنَّجاح هُمْ قَوامَهُ، لا بَلْ الشُّعورُ وَالعاطِفَة تُعْتَبَران دَماراً وَرَجْعِيَّةً، فَنَهْجُرُهُما.
فِكْرُ النَّاسِ مَلِيء بِالمالِ وَالإِسْتِهْلاكِ وَالَّنجاحِ. كُلَّهُ يَدورُ حَوْلَ المَصْلَحَةِ المُشْتَرَكَة وَالحالَة الإِجْتِماعِيَّة وَالمُضارَبَةِ مَعَ الآخَرِين وَالتَّفْكيرِ الكَبيرِ في ضَمانِ المُسْتَقْبَلِ وَالأَطْفالِ وَعِنايَتِهِمْ. إِذا كانَ الفِكْر دائِماً مَلِيء بِهذِهِ الإِعْتِباراتِ وَمُراجَعَتِها بِشَكْلٍ يَوْمِي، فَسَتَتَقَلَّصُ قُدُراتِنا عَلى الإِدْراكِ تِلْقائِيًّا حَتّى يّحْذِف الحِسُّ مِنْ حَياتِنا وَمَعَهُ الحُبّ تَدْريجِيًّا وَيَخْتَفِي وَلا يَعودُ لَهُ وُجودٌ حَتَّى حُبُّنا لِلطَّبيعَةِ وَالأَشْياءِ تَأْخُذُ طابِعاً مُخْتَلِفاً، وَشَريكَةُ الحَياةِ الحَبيبَةِ تُصْبِحُ في زَخَمِ الأَفْكارِ التي لا تُؤْمِنُ بِغَيْرِ المِلْكِيَّةِ شَيْئاً مِنَ الأَشْياءِ التِي نَمْلِكُها وَدَوْرِها الوَحيدِ الوَظائِفَ وَإِتْمامِ الواجِباتِ.
الأَفْكارِ ذاتَ الشَّكْلِ الواحِدِ لا تُؤَدِّي في النِّهايَةِ إِلاَّ إِلى التَّوَتُّرِ العَصَبِي وَالإِرْهاقِ النَّفْسِي المُزْمِن. فَنَحْنُ لا نَحْسُّ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ كَيْفَ نَخْسَرُ بِمَرارَةِ حَيَوِيَّتُنا وَنَموتُ روحِياًّ فَتَموتُ قُدْرَتُنا عَلى الحُبِّ مَعَها. وَهذا هُوَ السَّبَبُ يا قارِئِي الذي يَجْعَلُ الحُبّ مُخْتَلِفاً في بِدايَةِ العُمْرِ وَعِنْدَ الكِبَر. ما عادوا قادِرينَ عَلى فِهْمِ هذا الحِسِّ الجَميلِ بِسَبَبِ مَلَلِهِمْ وَعَدَمْ إِحْساسِهِمْ فَلا يَعودُ لِلْحُبِّ مَكانٌ عِنْدَهُمْ – كُلُّ عزائِي الرُّوحِيَّ سَيِّداتِي وَسادَتِي- وَقُدْراتِهِمْ عَلى الحُبِّ تَتَراجَعُ وَتَتَفاقَمُ عَدَمْ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ أَوْ إِدْراكِهِ أَوْ الإِحْساسِ بِهِ.
مِنَ المُهِمِّ عِنْدي أَنْ لا يُحْمَلُ كَلامِي عَلى مَحمَلٍ بِأَنَّ هَذا التَّطوُّر طَبيعِي مَعَ الكِبَر. إِنَّما السُّؤَالُ الذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ هُوَ القِيادَةُ الحَياتِيَّة وَإِدارَتِها وَفَلْسَفَتِها وَكَيْفِيَّةِ التَّعامُلِ مَعَها وَالأُسْلوب.
شَخْصٌ في السِّتينِ أَوِ السَّبْعينِ أَو حَتَّى الثَّمانينِ يَحِسُّ وَيَعِي ما يَدورُ حَوْلَهُ وَيَقْظَتَهُ إِيجابِيَّة وَقادِرٌ عَلى مُواجَهَةِ نَفْسِهِ وَالآخَرين بِنَظْرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَقُوَّةِ إِدْراكٍ، تَكونُ لَهُ القُدْرَةُ تَماماً أَوْ أَكْثَرُ عَلى الحُبِّ مِمَّنْ هُمْ في مُقْتَبَلِ أَعْمارِهِم. الشَّيْخوخَةُ شَيْخوخَة الجَسَدِ لا الرًّوح، وَبَقاءُ شَبابِ الرّوحِ مُرْتَبِطاً بِالحِسِّ وَقُوَّةِ التَّأَمُّلِ – وَالتَّأَمُّل أَعْظَمُ العِباداتِ- وَلِهذا، لَيْسَ بِالضَّرورَةِ أَنْ يَكونَ الحُبّ في مُقْتَبَلِ العُمْرِ مُخْتَلِفاً عَنْ آخِرَه.
إِنَّهُ مِنَ المُدْهِشِ سَماعُ الذينَ لَطالمَا بَحَثوا عَنِ السَّعادَةِ وَما وَجَدُوها، أخَذوا الطَّريق الخاطِئِ لهَا. بَحَثوا عَنِ المالِ وَالإِنْجازِ وَالجاهِ وَالسُّلْطَةِ - وَأَنا أَعْتَرِفُ بِأَنَّ المال عَصْبُ الحَياة، لكِنَّهُ لَيْسَ كُلَّها- وَاعْتَقَدوا أَنَّ الحِسّ لا دَوْرَ لَهُ فَأَهْمَلوه. لا عَجَبَ أَلّا يَلْتَقوا السَّعادَةَ في طَريقِهِم، فَالسَّعادَةُ نَهْجٌ وَزِقاق وَمُدُن رَحِبَة لا يَجِدُها إِلا مَنْ آمَنَ بِالِحسِّ وَالعاطِفَةِ وَجَعَلَها دِيناً لَهُ.
من كتابي "رذاذ وجعي"
x
x

معلومات كاتب الموضوع

يتم هنا كتابة نبذه مختصره عن كاتب الموضوع.
شاهد جميع موضوعاتي: أحمد سليمان العمري

0 Comments:

شكرا لك على التعليق ... دمتم بود (أحمد العمري)

Back to top ↑

كلمات من العمري

في بداية خطابي أشكر زائريّ ممن بحث عني بأسمي أو دخل منزلي صدفة فراق له البقاء. وجزيل شكري لكل أصدقائي وأحبتي ممن يعملوا في الخفاء لنشر كلماتي دون تقديم أشخاصهم، إيمانهم بها أو بي وإن زل قلمي حيناً يقينهم إذعانَ قلبي وعقلي لها. لقد ترددت كثيرا قبل أن أفتح هذا الباب الذي عمل عليه صديقي الأستاذ أنس عمرو وصديقي الدكتور ضياء الزعبي - جزاه الله كل الخير- ولم يتركني حتى كَمُل على وجه رضيناه للأخوة القراء الكرام ... المزيد
كن على تواصل واتصال معنا

© 2018 أحمد سليمان العمري.
Design By: Hebron Portal - Anas Amro .